الرئيسية / الإسلام والمعجزات الإلهيّة / معجزات القرآن في فريضة الحج

معجزات القرآن في فريضة الحج

هناك أمورا كثيرة في الإسلام قام المفسرون بشرحها وانتقل الشرح من مفسّر لمفسّر حتى وصلتنا في أيامنا هذه دون محاولة لإعمال العقل والتفكير في صحة ما يقال وما مدى احتمالية وجود أفكار أخرى يكون لها دور في النظر بطريقة جديدة إلى ما ظن الكثيرون أنه ثابت.

من بين هذه الأمور قصّة الإسراء وفرض الصلاة وفرض الصوم والبراق وأهل الكهف وغيرهم، وهذا قليل من كثير.

وأريد هنا أن أوضح بعض الأمور المتعلقة بالحج وفرضه وتوضيح بعض الأمور التي أرى أنّ عليها أو فيها خلافا أو اختلافا بين المفسرين، سواء كان ذلك في صلب الموضوع نفسه أو في طريقة العرض.

فهناك من يقول أن موسى عليه السلام جاء بمعجزات منها العصا وعلاج يده المحروقة وتصحيح نطقه الذي أصيب بخلل بسبب حرق لسانه، وهذه كلها ليست معجزات كما يرى البعض وإنما هي أوامر من الله لنبيه موسى الذي نفذ الأمر فوقع ما وقع، فعندما يأمر الله سبحانه نبيه موسى (وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا) فهنا نجد أن كل المطلوب من موسى عليه السلام هو أن يلقي بعصاه وينتظر ما سيحدث وهو أن تقوم العصا (بعد أن تتحول إلى ثعبان كبير بأكل كل الثعابين الصغيرة التي “صنعها” السحرة)، إذن موسى عليه السلام كلّف بإلقاء العصا ففعل ما أمر به، وحدث ما حدث وهذا أمر الله سبحانه وليس كفاءة أو قدرة خاصة لموسى عليه السلام، بل هو إظهار لمدى قدرة الله على أن يجعل موسى في موقع قوة يعجز عنها السحرة، وهذه قوة الله سبحانه وقدرته وليست معجزة قام بها موسى عليه السلام؛ والدليل على ذلك هو بقية الآية (إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى).

وبالتالي لا يكون ما وقع إعجازا منه كما ذكرت من قبل، وإنما من الله، والله سبحانه لا يعجز عن أي شيئ. ومع ذلك كفر به قومه وكذبوه وعاندوه وخالفوه وكفروا بما أمرهم الله به. ومثل هذه الأعمال أو “المعجزات” تكررت كثيرا مع أنبياء آخرين بدءا من نبي الله نوح عليه السلام مرورا بإبراهيم ولوط وانتهاء بيعقوب ويوسف وموسى عليهم جميعا السلام.

أما نبيّ الله عيسى عليه السلام فهو الوحيد الذي كان يأمر الشيء فيحدث – بإذن الله – وسبب ذلك أنه عليه السلام كان مؤيّدا بروح القدس التي بها كان يفعل ما يريده دون إذن مسبق حيث أنه كان مخولا من الله بعمل ما أهّله الله له وهي أمور لم تحدث من أي نبيّ من قبله ولا من بعده. وهذه كلها تعتبر “معجزات” حيث كان يشفي المرضى بالمسح بيده على مكان المرض فيزول على الفور ويعود المريض صحيحا وذلك دون أن ينتظر أمرا من الله بأن يفعل هذا لأنه أعطي تلك الصلاحيات الإلهية منذ يوم مولده وحديثه إلى أهل والدته عليها السلام، وقد كان هذا هو السبب في تسميته بالمسيح، وحتى عندما أحيا الموتى لم يكن ذلك كافيا لكي يقتنع به قومه وكفروا به تماما كما حدث مع سيدنا موسى عليه السلام وغيره من الأنبياء أو الرسل الذين سبقوه والذين تلوه.

وأخبرا جاء رسول الله محمد عليه الصلاة والسلام الذي لم يأت بمعجزات حسية أو مرئية كما حدث مع موسى وعيسى عليهما السلام، وكانت معجزته هي القرآن الكريم، والذي مازال الكثير يشككون فيه وفي أنه من عند الله. فهل القرآن من عند الله فعلا؟ وهل هو معجزة في حد ذاته كما يرى البعض؟ لقد سأل كفار مكة رسول الله محمد أن يريهم أدلة أو معجزات تؤيد صحّة نبوّته. وسأستخدم لإثبات ذلك أحد أعمدة الإسلام الخمس وهو الحجّ.

كما نعلم، فسيدنا إبراهيم عليه السلام كان أبو الأنبياء، وقد أمره الله سبحانه أن يأخذ زوجته المصرية السيدة هاجر وابنهما إسماعيل ويترك أرض كنعان التي كانوا يقيمون فيها، وذلك تنفيذا لرغبة زوجته السيدة سارة بأن تغادر السيدة هاجر وابنها إسماعيل حتى لا يشارك إسماعيل أخاه اسحق في الميراث. وذهب إبراهيم ومعه هاجر وإسماعيل إلى مكّة التي كانت قفراء قاحلة كما جاء في القرآن على لسان سيدنا إبراهيم (رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ (37).

وقد قام إبراهيم عليه السلام تلبية لأمر الله تعالى حيث أمره ربه أن يبني البيت هو وابنه إسماعيل عليهما السلام: (وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً(*) لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى) [البقرة:125]

وهنا نجد أن الله سبحانه يقصّ على رسوله محمد عليه السلام أنه جعل البيت مثابة للناس ويأمره بأن يطلب من المسلمين أن يتخذوا من مقام إبراهيم مصلّى، فكان الحديث عن الصلاة ولم يتحدث عن الحجّ لأنه لم يكن معروفا ولم تكن له ممارسات معروفة حتى ذلك الوقت. ثم جاء بعد ذلك أمر الله لإبراهيم عليه السلام بأن يبني الكعبة “البيت” (وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ) [البقرة:125] وكانت قد تهدمت واختفت تحت الرمال، فأرسل الله ريحا أزالت الرمال حتى ظهرت قواعد الكعبة، وعند ذلك رفع إبراهيم وإسماعيل القواعد من البيت، فجعل إسماعيل يأتي بالحجارة وإبراهيم يبني، حتى ارتفع البناء وهما يقولان: (رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) [البقرة:127].

وهنا يكون إبراهيم عليه السلام قد قام بإعادة بناء الكعبة للمصلّين وليس للحجّاج، ففريضة الحجّ لم تكن معروفة حتى ذلك الوقت، ثم جاء من بعده من الأنبياء حتى انتهت الرسالة عند سيدنا محمد عليه السلام، الذي عانى أيضا من الكفّار الذين طلبوا منه أن يأتي لهم بالمعجزات كدليل على نبوّته، ولذلك قال الله له أنهم لن يؤمنوا لأنهم طلبوا نفس الطلبات من الرسل السابقين وعندما جاءهم الرسل بالمعجزات استمروا على كفرهم ولم يؤمنوا بهم، حتى عندما رأوا رسولا يحيي الموتى لم يكن ذلك كافيا لهم ليؤمنوا.

وهناك من يعتقدون أن الآية “وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالا وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق” كان المقصود بها سيدنا إبراهيم، وذلك تأكيدا لما جاء في الآيتين من سورة الحج: (وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَن لَّا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (26) وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَىٰ كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (27) بينما الصحيح في رأيي هو أنّ هذه الآيات نزلت على محمد عليه السلام وكان هو المخاطب بها وليس سيدنا إبراهيم، الآية الأولى (26) توضح للرسول محمّد (صلى الله عليه وسلم) كيف عرف سيدنا إبراهيم مكان البيت وقام بـ (إعادة) بنائه، والآية الثانية (27) موجهة للرسول محمد أيضا، كي يؤذن في الناس بالحجّ بعد أن فرضه الله على المسلمين في حجّة الوداع.

وعن رواية لأبو هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “أيها الناس قد فرض عليكم الحجّ فحجّوا”.

وهكذا يكون الله سبحانه قد أخبر محمدا عليه الصلاة والسلام بألا يهتم بالكفار وما يقولوه، وأنهم كذّبوا الرسل السابقين برغم كل ما جاؤوا به من معجزات، وطلب منه أن يؤذّن في الناس بالحجّ فيأتون من جميع أنحاء العالم بكل طرق المواصلات (رجالا “أي سيرا على الأقدام” وعلى كل ضامر يأتين من كلّ فجّ عميق “أي راكبين للحيوانات التي يستخدموها <خيل وحمير وجمال> قادمين من أقصى جوانب الأرض، وقد ضمرت حيواناتهم من طول السير وقلة الغذاء في الطريق”، وبعد ما يقرب من ألف وخمسمائة عام، مازال المسلمون يأتون لأداء شعيرة الحج، وذلك تأكيدا لقوله تعالى: (سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق، أولم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد (الصافات: 53)).

وهذا أحد الأدلة على صحّة القرآن الكريم وما جاء فيه وتأكيدا بأن الآيات التي أرسلها الله سبحانه مع موسى وعيسى عليهما السلام كانت آيات مؤقتّة انتهى مفعولها بعد حدوثها، أمّا إعجاز الرسول محمد عليه السلام فهو إعجاز إلهيّ لا ينتهي بانتهاء الرسول أو زمن الرسالة، بل يبقى قائما إلى أن تقوم الساعة وتنتهي الأرض وما عليها، فها نحن نرى المسلمون يتحاربون ويتقاتلون في كل مكان، وبالرغم من ذلك يهرع الجميع إلى مكّة لأداء فريضة الحج بمجرد الإعلان عنها في مواعيد ثابتة ومحددة.

ورغم وفاة كل الرسل والأنبياء من ذوي العلاقة، وأهم ما في هذه العلاقة هي أن يقوم أبو الأنبياء إبراهيم عليه السلام برفع قواعد الكعبة وبنائها لأنها ستكون جزءا مهما من العقيدة الإسلامية، لكي يقوم آخر الأنبياء بدعوة المسلمين للحجّ إليها والطواف حولها تطبيقا لهذا الجزء الذي لم يؤمر به إبراهيم عليه السلام، وأن يذكر القرآن الكريم هذه الأحداث كلها، فقد تحقّق ما جاء فيه من أوامر وتعاليم سواء كان ذلك لإبراهيم أم لمحمّد عليهما السلام، وهذا إعجاز في حدّ ذاته، ومازلنا نرى أعداد الحجيج في ازدياد مستمر كلّ عام، كما لو كانت الآية قد نزلت بالأمس فقط.

(*) وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً للناس: أي مكانا يأتون أو يرجعون إليه عند الحاجة.